الفصل الأوَّل
المكتبات و خزائن المخطوطات في البوسنة
شغف المسلمون بالكتب ، و حرصوا على اقتنائها منذ القدم ، باذلين في سبيل ذلك عظيم الجهد ، و نفائس الأموال .
و كان الواحد منهم إذا حاز كتاباً أولاه من العناية و الرعايـة ، و الحفظ والصون و الحماية ، ما لا يخطر ببال المعاصرين الذين أدركوا الكتب مطبوعةً منمقةً تباع و تشترى على قارعة الطريق في كثيرٍ من الأحيان في مختلف أنحاء العالـم الإسلامي .
و على الرغم من أن الإسلام وصل إلى البوسنة متأخراً - بالمقارنة مع بلدان العالم الأخرى - فقد عُرِف عن أهلها استباق الخيرات ، والسعي الحثيث إلى اللحاق ببلدان العالم الإسلامي الأخرى ، و لا سيّما في ميادين الدعوة والتعليم الإسلامي ، و العناية بكتب الدين على مختلف المستويات .
ومن المظاهر التي من شأنها إعطاء صورة حقيقية عن مدى التقدم الذي أحرزه البشانقة في هذا المجال ، تلك المدارس والمكتبات العامة التي أمَّها طلبة العلم من أنحاء بلاد البلقان ، بل و المناطق التي وصلها الإسلام في أوروبا كافة ، وملئت خزائنها بنفائس المخطوطات ، سواء منها تلك التي نسخت في البوسـنة نفسها ، أو التي جلبت إليها من أقاصي الدنيا ، و لما كان معظمها مكتـوباً باللغات الشرقية (العربية و التركية و الفارسية) فقد عرفت كبرى مكتبات البوسنة باسم (المكتبات الشرقية) .
و كانت النواة الأولى التي تشكلت منها المكتبات البوسنوية الجهود الفردية التي بذلها أهل البوسنة في :
جمع المخطوطات من أنحاء العالم الإسلامي ، حيث جلب البشانقة إلى بلادهم آلاف النسخ الخطية من نفائس الكتب ، التي تملكوها ابتداءً ، ثم أودعوها على سبيل الإهداء أو الوقف أو البيع في المكتبات الإسلامية فور ظهورها .
ويكفي لتأكيد الجهود البارزة لأهل البوسنة في هذا المجال ؛ أن لسبع وثلاثين من مشاهير البوسنة ما يثبت تملكهم للعشرات من مخطوطات الحديث النبوي وعلوم السنة التي أتيت على ذكرها في بحثي هذا .
نسخ المخطوطات على أيدي نساخ بوسنويين مهرة ، لم يكن للكثيرين منهم مهنة سوى تحرير الكتب وعرضها ومقابلتها . كما أن بين هؤلاء النساخ عظماء و ساسة ومشاهير كتبوا بأيديهم ، ما اعتبروا كتابته قربة يتقربون بها إلى الله ، و يحتسبون الأجر عليها عنده .
وبين ما ذكرت في بحثي هذا من مخطوطات الحديث ( 37 ) نسخة خطية كتبت بأقلام أهل البوسنة و الهرسك ، و تعاقب عليها مُلاّك بوسنويون إلى أن حفظت أخيراً في مكتبات البوسنة العامرة .
و يدلنا على كثرة النساخ البوسنويين الذين أفنوا أعمارهم ، و أنفقوا أوقاتهم في حفظ التراث أن في وسط سراييفو اليوم شارعين ، اسم أحدهما ( المجلِّدوُن الصغار ) و اسم الآخر ( المجلِّدون الكبار ) ، لأنهما كانا بمثابة المراكز الثقافيَّة التي يكثر فيها مجلدو الكتاب ، ومن المعروف أن أغلب الكتب التي كانت تقدم للتجليد هي من الكتب المخطوطة .
و زاد من أهمية النّسخ المحلي للكتاب في البوسنة ، و دور النساخ في ذلك كثرة علماء البوسنة الذين ألفوا و صنفوا باللغة العربية ، وكان لزاماً على تلاميذهم و مريديهم أن ينسخوا كتبهم ، و يحافظوا على تراثهم العلمي الرفيع .
و من أشهر هؤلاء العلماء البوسنويين الذين أثروا المكتبات بمؤلَّفاتهم :
الشيخ حسن كافي الأقحصاري ( ت : 1025 ﻫ / 1616 م ) .
الشيخ المفتي علاء الدين علي ددة بن مصطفى الموستاري(ت : 1090ﻫ / 1680 م ).
الشيخ أحمد بياضي زاده ( ت : 1098 ﻫ / 1679 م ) .
الشيخ مصطفى بن يوسف أيوبي زاده الموستاري ( ت : 1119 ﻫ / 1687 م ) .
الشيخ أحمد بن محمد الموستاري ( ت : 1190ﻫ / 1776 م ) .
وبذلك يتأكد لنا وجود المكتبات الإسلامية في البوسنة والهرسك ، و تميزها عن مثيلاتها من المكتبات الشرقية في بلاد البلقان و بقية بلدان أوروبا و روسيا ، حيث إن بين المخطوطات المحفوظة في البوسنة عدداً كبيراً من الكتب المؤلفة والمنسوخة محلياً ، أما المكتبات ودور المخطوطات الشرقية في البلدان الأوروبية الأخرى فقد جُمع جلُّ ما فيها من مكتبات أخرى ، أو جلب إليها من البلدان الإسلامية نـهباً ، أو شراء ، أو بتواطؤ من القائمين على المراكز العلمية ، و مكامن التراث في العالم الإسلامي ، إبان عصور الضعف و الركود التي دامت
طويلاً .
وقد ساعد على جلب المخطوطات إلى بلاد البلقان عامة و البوسنة خاصة ما كان لمسلميها من العلاقات القوية مع العالم الإسلامي (( إذ كثيراً ما كان بعضهم يرحل في طلب العلوم إلى أشـهر مراكز المعارف الإسلامية ، مثل اسطنبول و القاهرة ، و بغـداد ، و دمشق ، و مكة ، و المدينة ، و غيرها . كما كان البعض الآخر منهم يسافرون إلى بلاد الشرق الأدنى و إفريقية الشمالية ، لغرض الحج أو التجارة أو شغل بعض الوظائف ، و كان الكثير من أولئك و هؤلاء يرسلون إلى وطنهم كتباً ، أو يأتون بها معهم عند رجوعهم إلى الوطن للاحتفاظ بها في مكتباتهم الخاصة ، أو لتقديمها إلى الأصدقاء ، أو لتزويد المكتبات المحلية بها )) .
و مع انتشار الإسلام في البوسنة ، أكبّ أهلها على التعليم والتعلم ، وانتشرت في بلادهم المؤسسات الثقافية ، و المراكز التعليمية ، فقد كان في البوسنة والهرسك وحدها ما يزيد على ألف مسجد جامع و ألف و خمسمئة مكتب
( كُتَّاب ) لتعليم الأطفال مبادئ الإسلام وقراءة القرآن ، و نحو مئة مدرسة ( أي معهد ديني ) و بجـانب هذه المراكز كانت تقام المكـتبات ، ويتجمع إلى جوارها المثقفون و العلماء فيجمعون الكتب ، و يقتنون مكتبات خاصة ، تؤول فيما بعد إلى الأوقاف بناء على وصاياهم .
وبسبب ما كان يعصف بالبوسنة من الحروب و ما يلحق بها من الدمار ، و ما كان يدور على أهلها من الدوائر ، تعرضت مكتباتها - شأنها في ذلك شأن غيرها من المراكز الثقافية - إلى الخراب و الدمار ، و أتلف ما فيها من التراث و الآثار مراراً ، من دون أن توجد الظروف الملائمة لإعادة ترميمها و حفظها .
و تحت وطأة التسلط الخارجي ، تسرب كثيرٌ من المخطوطات النفيسة من مكتبات البوسنة إلى خارجها ، و بيع بأبخس الأثمان ، و نقلت مجموعات هامة ، و مكتبات كاملة إلى الخارج ، كما فعل بمكتبة الدكتور صفوت بيك باشاغيتش ( ت 1353 هـ / 1934م ) ، التي نقلت بكاملها إلى مكتبة جامعة براتسلافا ، في تشيكوسلوفاكيا السابـقة ( جمهورية التشيـك حالياً ) .
ويذكر بعض الباحثين أن في سراييفو - وحدها - نحو عشرين ألف مخطوط يضم معهد الاستشراق نحو سبعة آلاف منها ، و معظم الباقي محفوظ في مكتبة الغازي خسرو بيـك ، إلى جانب آلاف المخطوطات الموزعة على المكتبات الأخرى في البوسنة و الهرسك ، كما يقول الدكتور سليمان غروزدانيتش .
و الفضل فيه يرجع إلى العثمانيين ، و هذا أمر يبعث على الفخر ؛ إلا أن من المؤسف أن ينظر بعض البوسنويين إلى العثمانيين نظرة جحود و تنكرٍ لأثرهم في إثراء الحضارة والثقافة لدى البشانقة ، كما فعل الروائي الشهير إيفو أندريتش في رسالته عن الثقافة العثمانية البوسنوية ، حيث قال : (( كان أثر الحكم العثماني سلبياً على الإطلاق إنهم عجزوا عن تقديم أي مضمون ثقافي أو رسالة سامية ، لأولئك السلاف الجنوبية الذين اتخذوا الإسلام ديناً )) .
و هذه النظرة المجحفة بحق التراث العثماني يشترك فيها الشيوعيون من أبناء مسلمي البوسنة المتنكرين لتاريخهم ، و المجتثين من جذورهم .
وقد ذكرت بعض التقارير المعنية بمتابعة الحرب الأخيرة في البوسنة أن الدمار قد طال المجموعة الكاملة للمخطوطات ، في معهد الدراسات الشرقية بسراييفو ، وعددها يناهز الخمسة آلاف بعد قصف المعهد بالمدفعية الصربية .
و من الممكن تقسيم مكتبات البوسنة المؤسسة على نظام الأوقاف أصلاً ، إلى ثلاثة أنواع هي :
المكتبات الخاصّة :
و هي المكتبات التي أنشأها العلماء و الأدباء و النسّاخ بجهودهم الشخصيّة و جمعوا محتواها من مشترياتهم أو موروثاتهم ، أو ممّا نسخوه بأنفسهم .
و قد اشتهر من بين المكتبات الخاصّة في البوسنة المكتبة القنطميريّة ، المنسوبة إلى الشيخ عبد الله أفندي القنطميري ، و هو أشهر نساخ المخطوطات من البوسنويين على الإطلاق ، و قد أقامها إلى جانب مدرسة الحاج إسماعيل آغا بن حوسيو البوشناقي ( المعروف بالمصري ) و أودعها نسخاً من نفائس المخطوطات التي كتبها رحمه الله بيده ، و لا شك أن قرب المكتبة من المدرسة قد ساعد طلابها و حفز هممهم على النشاط في نسخ الكتب ، حتى صارت هذه الصنـعة إحدى مميزاتهم و اشتـهر عدد من طلابها النساخ كالشيخ عثمان أفندي جمهور الفيشغرادي .
المكتبات العامَّة :
و هي التي أنشأها بعض العلماء و العظماء و هواة جمع الكتب الذين يملكون الوسائل المادية الوافرة لشراء الكتب ، حيث كانت الكتب باهظة الأثمان ، بسبب كتابتها بخط اليد ، و كثرة ما فيها من الزينة و الزخارف المكلفة .
و من أشهر مكتبات البوسنة المصنّفة ضمن هذا النوع مكتبة ألجي إبراهيم باشا والي البوسنة في زمنه ( و تعرف باسم : المكتبة الفيروزية ) التي ألحقها بمدرسته الشهيرة في ترافنيك .
و كانت هذه المكتبة تضم نحو ثلاثمئة مخطوطٍ تم نقلها إلى مكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو مؤخراً .
مكتبات المساجد و الزوايا و التكايا :
و كانت تتكون غالباً من نسخ المصحف الشريف ، و أجزائها ، و بعض الكتب الدينية العامة ، التي يستفيد منها عامة المسلمين ، و ربما أعيرت لمن يقرأها أو ينسخها ، أما التكايا فجلُّ ما كانت تحويه هو من كتب الصوفية ، و سير مشائخهم و قد كان بينها الكثير من المؤلَّفات باللغتين التركية و الفارسية ، إضافة إلى القليل المحرر باللغة العربية .
مكتبات المدارس :
و هي في الواقع أهم هذه المكتبات لاحتوائها على كتبٍ أكثر عدداً و تنوعاً من حيث المضمون ، علاوة على أنها كانت بمثابة مكتبات عامَّة ، و كان الأهالي يستعيرون الكتب منها لقراءتها أو نسخها ، و من الأسباب التي أدت إلى اتساع هذه المكتبات و انتشارها في البوسنة و الهرسك ما ينقل إليها من مجموعات الكتب و المكتبات الخاصة التي كان أصحابها يقفون كتبهم قبل موتهم ، أو يقفها ورثتهم من بعدهم على بعض المدارس ، و ربما أوقفها بعض العامة ، و حتى الفقراء و طلبة العلم ، مما أدى إلى ازدياد هذا النوع من المكتبات حتى بلغ عددها في أيام الحكم العثماني للبوسنة نحو مئتي مكتبة متفاوتة الحجم و الأهمية و المحتوى .
و من أشهر مكتبات المدارس في البوسنة المكتبة التي أقامها المحسن الكبير الحاج محمد بيك الشهير بقركوز بيك رحمه الله سنة 977 هـ / 1569 م ، في مدينة موستار ، إلى جانب مدرسته الشهيرة في موستار و التي عرفت باسمه أيضاً ، و جعل نواتها كتبه الخاصة التي أوقفها على طلاب المدرسة ، و سماها في وقفيته ، و هي :
سبع مصاحف مجلدة ، و ثامن مجزّأ .
تفسير ( الكشاف ) للزمخشري .
تفسير القاضي البيضاوي .
حاشية على كتاب ( شرعة الإسلام ) لسيد علي .
قاموس عربي تركي .
و مع الزمن أغنى مدرسوا و طلاب مدرسة قرجوز بيك الموستاري هذه المكتبة بما نسخوه من المخطوطات حتى غدت إحدى أثرى مكتبات المنطقة بالكتب العربية و التركية و الفارسية ، إلى جانب مؤلفات علماء موستار ، أمثال الشيخ يويو ، و الشيخ إبراهيم أوبياتش و غيرهما .
و قد عانت هذه المكتبة من الإهمال في ظل الحكم الشيوعي للبوسنة حتى كادت تفقد ما في خزانتها من نفائس المخطوطات ، بعد أن طالتها الأرضة ، والأيدي الآثمة ، حتى تنبه لذلك بعض الغيارى فسعوا إلى نقل مخطوطاتها إلى مكتبة الغازي خسرو بيك بسراييفو ، و نفذوا ذلك فعلاً سنة 1379 هـ / 1950م ، جزاهم الله خيراً .
و إلى جانب ما تقدّم ذكره عرفت البوسنة منذ وصول الإسلام إليها مكتبات عديدة من أشهرها :
مكتبة مدرسة حسن ناظر ، وقد أنشئت سنة 957 هـ/1550م في مدينة
فوتشا .
مكتبة المدرس عثمان أفندي ، و قد أسست في القرن الحادي عشر من الهجرة / السابع عشر من الميلاد في مدينة فوتشا .
مكتبة مميشاه بيك ، و قد أسست سنة 983 هـ/1575 م في مدينة فوتشا .
مكتبة درويش باشا بن بايزيد آغا ( ت : 1012 هـ / 1603 م ) في موستار.
مكتبة مصطفى أيوب زاده المعروف بالشيخ يويو ( ت : 1119 هـ / 1707 م ) في موستار .
مكتبة إبراهيم أفندي بن إسماعيل الموستاري ( ت : 1138 هـ / 1726 م ) في موستار .
مكتبة علي باشا الاستولييتشوي ، في استوليتشا .
مكتبة مدرسة إبراهيم أفندي الموستاري ، و قد أسست في القرن الحادي عشر الهجري ، في قصبة بوجيتيل ، الواقعة قرب موستار .
مكتبة محمد باشا كوكاويتشا ، و قد أسسها قبل سنة 1173هـ / 1759 م في ترافنيك .
مكتبة مدرسة عبد الكريم سيم زاده كومشيتش ، و قد أسست في القرن الثاني عشر للهجرة ، في سراييفو .
مكتبة عثمان شهدي أفندي، التي أسسها سنة 1173هـ / 1759 م في سراييفو.
مكتبة جامع أحمد باشا ، المؤسسة في القرن الثاني عشر للهجرة ، في بلدة غرادتشانيتسا .
مكتبة الحاج خليل أفندي بن أحمد الغرادتشانيتسوي القاضي في المحكمة الشرعية ببلغراد ، وقد أسسها في القرن الثاني عشر للهجرة ، ببلدته غرادتشانيتسا .
و إذا تأمَّلنا حال هذه المكتبات ، سنلاحظ أنها في الغالب قامت عن طريق الوقف أصلاً ، أو أنها آلت إلى الوقف بصورةٍ ما .
و من أشهر المكتبات العامة في البوسنة والهرسك : مكتبة الغازي خسرو بيك الشهيرة التي سأفردها بالذكر فيما يلي لبيان أهميتها ومكانتها بصفتها المكتبة الأم في البوسنة ؛ و مستقرّ معظم المكتبات الأخرى – التي ألحقت بها تباعاً – و مستودع مخطوطات البوسنة و تراث أهلها العلمي عبر العصور .
مكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو :
ممّا يلفت نظر المتأمّل في منطقة سراييفو القديمة ( المسمّاة عند أهل البوسنة ستاري غراد ) أحد المباني القديمة التي لا تزال شامخة على مقربة من مسجد الغازي خسرو بيك و مكبته الشهيرين ، و قد كتب على باب هذا المبنى :
مجمّع الأبرار ، دار الكاملين
(( فيها كتبٌ قيّمة ))
بنى هذا البناء للطالبين الغازي خسرو بيك
944 هـ / 1537 م
و ما ذلك المبنى إلا مبنى مكتبة الغازي خسرو بيك في سراييفو ؛ أقدم و أعرق و أكبر المكتبات و خزائن المخطوطات الشرقيّة في منطقة البلقان بعد مكتبات تركيا .
و قد أسس هذه المكتبة الغازي خسرو بيك سنة 944 هـ / 1537 م كما يظهر من الكتابة المنـحوتة على مدخلها ، و الوقفيـّة المحفوظة ضمن مخطوطاتها ، و كانت في بداية الأمر ملحقة بمدرسة الغازي و وقفاً على طلاّبها حسب ما يوحي به قوله في وقفيّة المدرسة (( و ما يفضل من خرج البناء تبتاع به الكتب المعتبرة ، و تستعمل في المدرسة المذكورة ليستفيد منها من يطالعها من المستفيدين ، و يستنسخها من يستنسخها من المحصّلين )) .
و ظلّت المكتبة ملحقةً بالمدرسة حتى فصلها عنها عثمان باشا طوبال والي البوسنة سنة 1354 هـ / 1935 م .
و تحوي المكتبة آلاف المخطوطات العربية و التركيّة و الفارسيّة التي جلبت إليها بطرق مشروعة – خلافاً لما هو عليه الحال في مكتبات و متاحف أوروبا الغربيّة – أو نسخت بأيدي أبناء البوسنة الذين شغفوا بالكتب ، و بذلوا وسعهم في نسخها ، و الاعتناء بها كما تقدّم .
و قد تعرّضت المكتبة و مخزونها النفيس إلى محن شتى ( من الدمار و الفيضانات و الحرائق و غيرها ) ، شأنها في ذلك شأن سائر المنشآت الإسلاميّة في البوسنة ، و من أشد ما لحق بها عمليّة السلب و التدمير التي وقعت أثناء عدوان أوغين سافويسكي النمساوي على سراييفو سنة 1109 هـ / 1697م ، التي نتج عنها فقدان عدد كبير من نفائس مخطوطاتها بما في ذلك مخطوطات أوقفها الغازي خسرو بيك نفسه رحمه الله .
و زاد من أهمّية المكتبة نقل عدد كبير من مخطوطات مكتبات البوسنة الأصغر حجماً و الأقلّ شأناً إليها عبر التاريخ ، فقد نقلت إليها مكتبة حسن ناظر و مكتبة مميشاه بيك ، و مكتبة قرجوز بيك ، و مكتبة درويش باشا بايزيد آغيتش ، و مكتبة ألجي إبراهيم باشا ، و مكتبة مصطفى أفندي أيّوبوفيتش ، و مكتبة الشيخ يويو و مكتبة الحاج خليل أفندي الغرادتشاينتشوي ، و مكتبة عثمان شهدي أفندي ، و مكتبة الشيخ عبد الله القنطميري ، و مكتبة المصري ، و مكتبة مدرسة آتميدان ، و مكتبة مدرسة سيم زاده كومشيتش ، و مكتبة مدرسة و جامع إبراهيم باشا في بوجتل و عددٍ من المكتبات التي كان يملكها معاصرون ، و أشهرها مكتبة الشيخ محمد الخانجي رحمه الله ، و مكتبة القاضي حسن أفندي بويو زادة ، و مكتبة متولي وقف الغازي خسرو بيك أحمد عاصم متوليتش ، و مكتبة الحاج أحمد أفندي بن مصطفى ، و مكتبة مصطفى بيك جنتي زاده ، و مكتبة عائلة جينو زاده ، و مكتبة عائلة المظفّري ، و مكتبة هرمو زاده ، و مكتبة مميش آغا قاسم آغيتش ، و كثيرٌ غيرها .
و بلغ عموم ما أودع خزائن المكتبة خمسين ألف وحدةٍ من المجلّدات و المؤلّفات و المجلاّت و الوثائق التركيّة باللغات الشرقيّة و الغربية ، منها سبع آلافٍ و خمسمئة مجموعةٍ ، و خمسة عشر ألف كتابٍ و رسالة في العلوم الإسلاميّة و اللغات الشرقيّة و الأداب ، إلى جانب مثل هذا العدد باللغات السلافيّة و الأوروبيّة ، و نحو أربعة آلاف وثيقةٍ تاريخيّة تتعلّق بتاريخ البوسنة و الهرسك ، و ألفاً و أربعمئة وثيقة حول أوقاف البوسنة ، و ستاً و ثمانين سجلاً للمحاكم الشرعيّة البوسنويّة ، و كتب و وثائق أخرى بالغة الأهمّيّة .
و أقدم ما في مكتبة الغازي خسرو بيك من المخطوطات نسخة من كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ، نسخت عام 525 هـ /1131م ، أي بعد وفاة المؤلّف رحمه الله بعشرين سنة فقط .
يليه كتاب فردوس الأخبار في مأثور الخطاب للديلمي الهمذاني ( ت 509 هـ /1116 م ) ، و هو منسوخ عام 546هـ / 1151م بيد عبد السلام بن محمد الخوارزمي بهمذان .
ثمّ الجزء الثالث من كتاب الكشف و البيان في تفسير القرآن لأبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري ( ت 427 هـ / 1036 م ) ، و يرجع تاريخ هذه النسخة إلى عام 571هـ/1176م و هو بخط بركات بن عيسى بن أبي يعلى .
و إلى جانب أمّهات الكتب التي ألّفـها علمـاء الإسلام على مرّ العصور - و كان حظ مكتبة الغازي خسرو بيك منها وافراً - نجد في خزائن تلك المكتبة ما لا نجده في سواها من مؤلّفات علماء البوسنة الذين كان لهم أثر قلّ من اطلّع عليه في إثراء حركة التأليف و النسخ في الولايات العثمانيّة ، و برز منهم علماء أعلام لا يقلّون شأناً عن أقرانهم من العلماء العاملين في ديار الإسلام الأخرى .
و من علماء البوسنة الذين حفظت مكتبة الغازي خسرو بيك تراثهم باللغات الشرقيّة كلٌّ من : الشيخ حسـن كافي الأقحصاري ، و الحاج مصطفى بن محمد الأقحصاري ، و حسن شلبي بن علي الموستاري المعروف بحسن
ضيائي ، و أحمد بياضي زاده ، و علاء الدين دده بن مصطفى البوسنوي ، و مصطفى أيوبوفيتش ( الشيخ يويو ) ، و أحمد بن مصطفى المفتي الموستاري ، و محمد بن موسى علاّمك ، و أحمد بن محمد الموستاري ، و إبراهيم بن إسماعيل أوبياتش ، و حسين البلغرادي ، و غيرهم .
و بالجملة فإن مكتبة الغازي خسرو بيك كانت و لا تزال ذات دورٍ رئيسٍ في خدمة تراث الأمّة و حفظه ، و لها مع سائر مكتبات البوسنة دور كبيرٌ في حفظ مخطوطاتٍ نفيسة ، و أصول قيّمة للكتب الإسلاميّة و غيرها .
و في الفصل التالي عرضٌ لما حوته خزائن هذه المكتبات من مخطوطات علم الحديث النبوي الشريف ، و هو قليلٌ من كثير ، و غيض من فيض يشهد على عظم هذه المكتبات و أهمّيّة ما تحويه .